الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشعر بضياع نفسي كبير، والأحداث تتوالى عليّ واحدة تلو الأخرى

السؤال

السلام عليكم.

حالتي لا تختلف عن حالات الكثيرين ممن مروا بضياع نفسي وإحساس داخلي برفض الدنيا بما فيها، ولكن كل شخصية وتختلف في طبائعها، لا أعلم متى بدأت حالتي بالتدهور، فالأحداث توالت واحدة بعد الأخرى.

منذ أن تخرجت من الجامعة ومهزلة الحياة بدأت، في بداية عملي تعاملت مع أشخاص لا يؤمنون بأن الرزق بيد الله وحده وإنما بأيديهم، وظهر ذلك في حجب المعلومات ونقل الكلام للمديرين والاتفاقات الجانبية، كل هذا وكنت لا أعرف كيف أتعامل، فقد كنت تلميذا جديدا في مدرسة الحياة، وما أدراك ماذا يحدث للمستجد من استغفال! تلقيت دروسا عديدة وتنقلت من عمل إلى آخر وفي كل مرة كنت أقابل نفس ذات الأشخاص باختلاف أشكال الوجوه.

تلك الدروس الحياتية أثرت في شخصيتي وأتعبتني نفسيا، فأنا لم أعتد التعامل مع أشخاص يغيرون وجوههم كل صباح، بسببهم كنت أفقد ثقتي بنفسي وبالعدل، وكنت أستعيد ثقتي برسائل الله لي عندما كان يرجع الله لي حقي بلا حول لي ولا قوة بعد قضاء فترة عصيبة من ضغط وألم، وهذا طبيعي!

فالظلم ساعاته طويلة وظلمته موحشة! لي فترة حاليا أمر بنفس الضيق ولكن هذه المرة لم يرسل الله لي أي رسائل تنقذني مما أنا فيه والظلم الواقع علي، وأعترف أن سبب أخذ عملي حيزا كبيرا من حياتي هو الفراغ الذي أحاول أن أملأه، ولكني أفشل بسبب الإحباط الذي بداخلي والمؤثرات التي تضغط على نفسيتي وتفقدني اللذة بأي عمل أقوم به، بجانب أن شخصيتي تميل إلى المثالية في الحياة عموما، فأنا مثلا أؤمن أن علي إتقان العمل وعلى الآخرين أن يقدروا ذلك في حين أني أتقن العمل وأقابل بالمزيد من اللامبالاة، وعدم التقدير، والأسوأ من ذلك أنهم يعتبرون ما أقوم به حق مكتسب، وإن قصرت في يوم نتيجة شيء خارج عن إرادتي يعتبرون هذا تقصيرا.

وعندما أقوم بما عليّ تجاه الآخرين لكن المقابل يكون إما تقليل من شأن ما أفعل رغم أنهم لا يبادلون بجزء صغير منه، أصبح الناس بارعون في الأخذ دون عطاء.

هذا جانب من حياتي، الجانب الآخر والذي يمثل ضغطا كبيرا في حياتي كان رهبتي وخوفي من فقدان والداي، أبي وأمي هما كل حياتي، دعوت الله كثيرا ألا أعيش ليوم أفقدهم فيه، دعوته ثم رجوته لدرجة أني وصلت إلى يقين في الدعاء أن الله لن يخيبني، وظللت أستمر في الدعاء حتى حدث أول مفرق في حياتي وهو وفاة والدي، عندها فقدت الثقة في اليقين بالدعاء والإصرار والإلحاح فيه، وفقدت معها أشياء بداخلي، وزاد علي الخوف والألم من فقدان أمي، وفقدت الثقة أنني من الممكن أن أدعو ألا أعيش ليوم فقداني لأمي ويستجيب الله لي.

ضغط نفسي بشع وكبير أعيش بداخله، أنا أعلم أن الموت حق لكن تجربة وألم فقدان والدي يصعب علي أن أعيشها مرة أخرى، وأنا لم أخرج منها بعد؛ لدرجة أن عقلي يرفض فكرة وفاة والدي بالرغم من مرور سنوات عدة على وفاته.

أنا أعيش مع أسرتي وبحكم أني أعيش في مكان يقرب لعملي -ويبعد عن منزل والدي- لا أراه لكنه موجود، وفي لحظات أشعر أنه بالفعل قد مات، وعندها أشعر بوخز في قلبي حتى يستعيد عقلي قوته ويقتنع أنه حي موجود.

أمي أصبحت نقطة ضعفي في الحياة وخوفي وألمي من أن أفقدها! لماذا لم يستجيب الله لي وأنا الذي دعوته بصدق ويقين.

الجانب الثالث من حياتي هو: انعزالي عن الناس والأصحاب، ليس لدي أصدقاء مقربين وليس لدي ثقة أن هناك صديق مقرب، فكل من مروا بحياتي لا يستحقوا لقب صديق رغم أني أحاول جاهدا أن أكسب صديق، لكن للأسف لا أحد منهم يعرف ما هو معنى الصديق!

زاد انعزالي ودفنت نفسي في وحدتي، وأصبحت فريسة لجشع ونفاق وزيف من هم في حياتي العملية وبين خوفي على أمي وتأثر علاقتي بالله، فما عاد لدي اليقين في الدعاء، وما عدت أشعر أن هناك تأثير للدعاء في حياتي.

ضياع نفسي، خوف، رهبة، عدم يقين، أشعر وكأني أقف داخل قارب مصنوع من الورق في وسط محيط ليس هناك يابس أرسو عليه ولا أقف على شيء ثابت يعطيني الطمأنينة، والقارب الورقي يذوب في الماء وأنا أغرق معه!

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبدالله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فمرحبا بك -أخي الكريم-، وردا على استشارتك أقول:

ينبغي أن تكون على يقين بأن الله إنما خلقنا في هذه الحياة من أجل هدف عظيم وغاية جليلة وهي عبادته سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

هذه الحياة دار اختبار وابتلاء وليست دار مقام واستقرار، يقول تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚوَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).

البشر ليسوا على طبيعة واحدة أو سلوك واحد بل يختلفون من شخص لآخر، ولذلك لا تتوقع أن الناس يتعاملون معك كما تحب بل ستواجه أساليب متنوعة في التعامل معك، فإذا تيقنت من ذلك فلن تنصدم من تعاملاتهم.

كثير من الناس لا يراعون إلا مصالحهم الدنيوية ولا ينظرون إلى الجزاء الأخروي، ولذلك فنظرتهم للحياة نظرة مقتصرة على الناحية المادية البحتة، لكن المؤمن يجمع بين النفع المادي والجزاء الأخروي، ولذلك يؤجر المؤمن على الأمرين معا.

المؤمن يتعبد لله تعالى في كل حركاته وسكناته كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، ويقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (وابتسامتك في وجه أخيك صدقة)، ويقول: (وفي بضع أحدكم ـ مجامعة الرجل زوجته ـ صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا)، ويقول: (حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك لك فيها أجر)، وقال معاذ بن جبل لأبي موسى رضوان الله عليهما: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، فانظر كيف جعل الشرع الأعمال اليومية الروتينية تنقلب إلى عبادة يؤجر عليها الإنسان لكن بالنية التي يغرسها المسلم في قلبه.

لقد أمرنا الله سبحانه بالدعاء في كل أمر من أمورنا وبين لنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه لا يلزم من الدعاء أن يستجيب الله للعبد بل إن ذلك على ثلاث مراتب، الأولى أن يستجيب الله للعبد، والثانية أن يدفع عنه من البلاء مثل أو أكبر مما دعا به، والثالثة أن يدخر الله ذلك للعبد إلى يوم القيامة، فعن أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ).

لقد نهى الشرع عن التعدي في الدعاء، ومن التعدي أن يدعو العبد بأمور مستحيلة كأن يجعله الله معصوما عن ارتكاب الذنوب، وكأن يطل عمره فلا يموت أو يميته قبل فلان كما دعوت أنت، فالأعمار بيد الله، والآجال بيده سبحانه وتعالى، وهي مضروبة تسير وفق قضاء الله وقدره وعليه كيف تفقد اليقين بالله وأنت قد وقعت في مخالفة لشرعه سبحانه.

والدك قد مات نسأل الله تعالى أن يغفر له وأن يرحمه، ولا داعي أن تحلم الأحلام غير الواقعية بأن والدك لم يمت.

المؤمن يرضى بقضاء الله وقدره ولا يتسخط إن نزل به أمر مقدر بل عليه أن يقول اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها.

الجزاء يكون على قدر البلاء فإن عظم البلاء عظم الجزاء، والابتلاء عنوان محبة الله للعبد يقول عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)، فعليك أن ترضى بقضاء الله وقدره، وحذارِ أن تتسخط وإلا فالجزاء من جنس العمل.

احذر من العزلة، فإن الشيطان أقرب للفرد من الاثنين وهو من الثلاثة أبعد، وعليك بمصادقة الأخيار الصالحين الذين يدلونك على الخير ويعينونك عليه، فالأمة لا تزال بخير ولا يزال الخيرون كثر ولله الحمد.

أوصيك أن تجتهد في تقوية إيمانك وتوثق صلتك بالله تعالى وذلك من خلال الإكثار من العمل الصالح، فبالإيمان والعمل الصالح تستجلب الحياة الطيبة، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖوَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الزم الاستغفار، وأكثر من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسعد بتواصلك، ونسأل الله تعالى لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً