الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بعد وفاة أمي ضاقت بي الحياة وأشعر بحزن كبير

السؤال

السلام عليكم.

أنا فتاة عشرينية توفيت والدتي قبل أشهر، وكانت هي كل حياتي، ولا أعرف كيف أكمل حياتي بدونها؟! أشعر بألم شديد ودائم بقلبي، صدمتي على رحيلها قوية جداً، دائماً أحاول أن أشغل نفسي بقراءة القرآن والدعاء لها عندما أشعر برغبة بالبكاء، ولكن لا أشعر أني بخير أبداً، كذلك أيضاً أعاني من الناس الذين حولي كثيراً منذ وفاة أمي، فهم يزيدون همومي بكلامهم وإحباطهم من جميع النواحي.

علماً أنه ليس لي سواها، فكنت أعيش معها لوحدنا، أشعر بحمل ثقيل وهموم وأفكار لا تهدأ في بالي، ودائماً أشعر أن مستقبلي انتهى، فقبل وفاتها كانت لدي أحلام وطموحات كبيرة، لكن منذ وفاتها اسودت في عيني الحياة وأشعر أنه ليس هناك سبب للعيش من أجله ولا حتى هدف! رغم أني محافظة على صلاتي وقراءة القرآن، ودائماً أستغفر وأذكر الله عندما تأتيني هذه المشاعر إلا أني أشعر باليأس من وقت لآخر.

أحياناً أبكي كثيراً لدرجة أشعر أني لن أستيقظ غداً من شدة همومي وضيق قلبي، وأحياناً أحاول أن لا أفكر أبداً لكن فجأة أتذكرها وأشعر أني بحلم، وأسأل نفسي حينها كيف ما زلت على قيد الحياة بعد وفاة أمي؟!

أفقدها في جميع تفاصيل يومي، كنت متعلقة بها بدرجة كبيرة وأغلب وقتي كان معها، وكل شيء وكل مكان لي ذكرى معها، وأشعر بالذنب الآن إن ضحكت أو حاولت أن أعيش مثل أي إنسان طبيعي.

أنا مؤمنة وراضية بقضاء الله لكن فقد أمي كسرني جداً، أشعر أنه لا أحد بجانبي ولا سند أيضاً، أنا لا أشتكي لأحد همومي ومخاوفي لأنني أخاف من نظرات الشفقة، وأحياناً أشعر أنهم لن يطيلوا الاستماع لي، لأن الكل لديه همومه ولا أرغب أن أزيد هموم أحد.

علماً أني غير متزوجة، وأعيش لوحدي مع شقيقي، فقدانها أصبح يقتلني، وتفاصيلها وذكرياتها لا تغيب عني، أصبحت أحب العزلة جداً، وأفضل الجلوس لوحدي ولا أحب مخالطة الناس، لأني فعلاً لا أستطيع الضحك أو أن أعيش كأن شيئاً لم يحدث.

بدأت أشعر أن من حولي لا يحبون الجلوس معي لأني أغلب الوقت صامتة، ولا أتحدث وكأنهم يشعرون بالنكد معي، ولا أعرف إلى متى سيستمر وضعي هكذا؟ ولا أعرف ماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Dal حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -ابنتي الكريمة- ورداً على استشارتك أقول:

كتب الله سبحانه الموت على كل الناس أحد في هذه الحياة، ولم يستثن لا نبياً مرسلاً ولا ملكاً مقرباً، فقال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).

سنة الله ماضية في الناس فلا فرق بين صغير وكبير وعظيم وحقير ومأمور وأمير، وكل شيء في هذا الكون يسير وفق تقدير العزيز القدير، وعلى المؤمن أن يكون راضياً بقضاء الله وقدره، ومن الرضا ألا يتضجر المؤمن من هذه الحياة، ولا يتكدر عيشة لدرجة أنه يصير محبطاً مكبلاً، لأن ذلك لن يوقف عجلة الحياة بل سيؤدي إلى عرقلة حياة ذلك الإنسان، وسيقصر في واجباته وينحرف عن الغاية التي خلق لأجلها.

لقد مات نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا ومع ذلك عشنا وتزوجنا وضحكنا واستثمرنا حياتنا وقمنا بما نقدر عليه في تحقيق الغاية التي من أجلها خلقنا الله سبحانه.

إنني أقدر حبك لأمك وتعلقك بها، لكن ذلك التعلق ما كان ليستمر طيلة حياتك بل سيأتي عليه يوم وتذهب عن هذه الدنيا، فعليك أن تتذكري هذا، وعليك أن تكوني على يقين أن الله سبحانه إذا أحب قوماً ابتلاهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).

عليك أن ترضي بقضاء الله وقدره، وحذار أن تتسخطي أياً كان نوع التسخط، وإلا فالجزاء من جنس العمل.

أكثري من الاستعاذة بالله من الهم والحزن، كما أرشدنا لذلك نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحُزْنِ وأعوذ بك من العجز والكسل)، وما استعاذ نبينا صلى الله عليه وسلم من الحزن إلا لما يترتب عليه من الآثار.

شقي طريقك في هذه الحياة وأملي في الله خيراً، وليكن لك دور في هذه الحياة، كما كان لوالدتك، وإياك أن تكوني صفراً في مجتمعك، وأحسني الظن بالله فإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ).

عليك أن تكملي حياتك بما تعلمت من والدتك من السلوكيات والصفات الحسنة، وأن تستفيدي من خالاتك وعماتك، ومن الصالحات من حولك، وأنا على يقين أنك ستبدعين في حياتك من أجل أن تكوني ذكرى لوالدتك من رآك تذكرها ودعا لها، فإن كنت حقاً تحبين والدتك فلتكوني لسان صدق لوالدتك.

تواصلي من زميلاتك وأقاربك، واختلطي بالصالحات منهن، واجعلي عجلة الحياة تسير وإن كان في البداية سيكون دورانها فيه شيء من الثقل إلا أنها في النهاية ستدور كما ينبغي، واحذري أن يتسلل إليك الشيطان الرجيم من خلال هذا الحزن العميق، ويجعلك تنعزلين عن محيطك لينفرد بك بعد ذلك بوساوسه وتحزينه، فإنما يأكل الذئب القاصية من الغنم، وكلما كنت اجتماعية كان الشيطان منك أبعد.

أحياناً قد لا يكون الحزن طبيعياً ولكن الشيطان يأتي فيلقي بخواطره على قلبك ويذكرك بوالدتك وبمواقف حياتك معها هنا أو هناك، ليس ليشعرك بالحنان تجاهها ولكن ليضيق عليك معيشتك، ولينغص حياتك، فأكثري من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

اجعلي لنفسك ورداً يومياً من القرآن الكريم، وحافظي على أذكار اليوم والليلة، يكن لك حرزاً من الشيطان الرجيم، ويطمئن قلبك، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

مستقبلك لم ينته بل سيبدأ طوراً جديداً، ولعله هو الأهم كونك كنت في السابق تجعلين لأمك بصمات في حياتك، أما الآن فإنما هي بصماتك أنت وتخطيطك وتنفيذك، فكم من فتاة فقدت أمها وكان لها شأن عظيم في هذه الحياة، وكم من صبي فقد أباه وأمه وكان له دور بارز في الحياة، وانظري إلى حياة من كانت لهم بصمات في هذه الحياة ستجدين أن أكثرهم كانوا أيتاماً، وهل كان نبينا عليه الصلاة والسلام إلا يتيم الأبوين.

لا تقولي لم يعد هنالك سبب للعيش فأنت لم تخلقي من أجل أمك، ولم تعيشي من أجلها، بل نحن إنما خلقنا لعبادة الله سبحانه كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولنعمر هذه الحياة كما قال: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ).

أوصيك أن توثقي صلتك بالله تعالى وتجتهدي في تحصيل الأعمال الصالحة من صلاة وصوم وتلاوة قرآن وذكر فإن ذلك مما يجلب للإنسان الحياة الطيبة، كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

اليأس لا محل له في حياة المؤمنين بل إنهم يعيشون بالأمل وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، وأنصحك أن لا ترسلي لنفسك بمثل هذه الرسائل السلبية لما لها من أثر على حياتك فإن العقل يستقبل تلك الرسائل ثم يتفاعل معها ويرسل أوامره لبقية الأعضاء من أجل العمل بمقتضاها وعليك أن تكوني إيجابية وأن تعطي لنفسك الرسائل الإيجابية التي تعينك على اجتياز الصعاب.

علاج اليأس والقنوط هو إعادة صياغة الحياة على التفاؤل وحسن الظن بالله والنظر إلى الحياة بتفاؤل واستبدال الرسائل السلبية التي كبلتنا عن الانطلاق وتحمل الصعاب برسائل إيجابية أمعني معي النظر في قول الصحابة حين أتي برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من شرب الخمر فقال الصحابة لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به لما كان لهذه الرسالة السلبية تأثير على نفسية الرجل تجعله يستمر في الإدمان محى عليه الصلاة والسلام تلك الرسالة بأخرى إيجابية تعزز من ثقة الرجل بنفسه وتدفعه نحو التغيير فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوه إنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم).

كيف تتصورين نفسية هذا الرجل بهذه الشهادة من النبي عليه الصلاة والسلام، ولما أتاه بعض الصحابة وكانوا قد تركوا الخطوط الأمامية للمواجهة في القتال فقال لهم من أنتم قالوا: نحن الفرارون قال بل أنتم العكارون يعني المنحازون إلى قائد الجيش.

لقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحب الفأل الحسن ويكره التشاؤم فروى الإمام أحمد في مسنده أنه : (كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحسَنَ ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ). والطِّيَرَةَ: هي التشاؤم بالشيء. وعند مسلم: (... وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ) ، وعند البخاري: (وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ؛ الْكَلِمَةُ الْحسَنَةُ).

ما أكثر الحوادث التي ستمر بالإنسان في الحياة جبلت على الأكدار، والإنسان يعيش في كبد وأي مكابدة، وعليه أن يجتاز تلك العقبات بنجاح من خلال الإيقان أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه مع التسليم والرضا بما قدر سبحانه.

شعورك أن الناس لا يحبون الجلوس معك ليس صادقا وإنما هو وسوسة من الشيطان يريد أن يعزلك عن الناس فلا تصي لتلك الوساوس وشاركي من حولك في مجالسهم ونقاشاتهم وعيشي حياتك بشكل اعتيادي.

اشتغلي أوقاتك بكل عمل مفيد، ومارسي ما استطعت من الرياضة وخاصة المشي بالهواء الطلق، وعليك في هذه الفترة بالطعام الحلو والشراب الحلو، فإن ذلك يجم الحزن ويذهبه إن شاء الله.

الزمي الاستغفار وأكثري من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من أسباب تفريج الهموم، ففي الحديث: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسعد بتواصلك ونسأل الله تعالى لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً