الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعاني كثرة المرض وقلة المال، ولا أجد عملا يغنيني السؤال، فما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

منذ طفولتي وأنا أعاني من كثرة المرض وقلة ذات اليد، فمشكلتي أني عليلة وأحتاج مصاريف كثيرة للعلاج لا أقدر عليها، هذا الأمر يؤلمني كثيرا ويحز في نفسي أني عالة على أهلي، أحس دائما أني مخنوقة ويملأ الحزن صدري حتى أتمنى الموت أحيانا على البقاء على هذا الحال.

أبحث عن عمل يكفيني ذل السؤال، فلم أجد غير عمل بأجر قليل لا يكفي -والحمد لله على كل حال-، أدعو الله تعالى كثيرا، وفي كل مناسبة، عسى أن يفرج عني.

أبحث عن عمل بأجر أكبر، أستغفر كثيرا، أتصدق، ألتزم طريق الحق سبحانه ما استطعت عبادة وأخلاقا، أحاول أن أفعل كل ما استطعت، ولكن الفرج لم يأت بعد، أعرف أن الدنيا دار ابتلاء، لكني لا أريد إلا رزقا كفافا يغنيني ذل الطلب والعالة على غيري.

لكن الأسئلة تتكاثر إن كنت في الطريق الصحيح، أم أني في ضلال مبين وذنوب نسيتها، وأتساءل دائما أين الخلل؟ وأخاف أن يتسلل اليأس إلي فأضل الطريق.

أفيدوني جزاكم الله خيرا، فإني في حيرة كبيرة وحزن لا يعلمه إلا الله وحده، وشكرا لكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أسمى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك -أختنا الفاضلة- في موقعك إسلام ويب، وإنه ليسرنا تواصلك معنا في أي وقت، ونسأل الله أن يحفظك وأن يرعاك وأن يقدر لك الخير حيث كان وأن يرضيك به.

أختنا الكريمة: قد عدّدت ما ألمّ بك -نسأل الله أن يعافيك- ونحن نتفهم تماما طبيعة المرحلة التي تمرين بها، نتفهم كذلك الألم الذي يعتصرك حين لا تستطيعين فعل ما ترغبين، أو لا تودين أن تخبري غيرك بما تريدين.

أختنا الكريمة: ونحن نقرأ رسالتك تذكرنا فتاة راسلتنا قبل عام، وهي ابنة خمسة عشر عامًا، أصيبت بمرض نادر في بدنها مما يستوجب نقل الدم لها بصورة شبه أسبوعية، ووالدها متوفى، وأمها فقيرة، وكانت هي التي ترعى وتنفق فلا معين للبنت إلا أمها، وفي أثناء العلاج تم نقل دم فاسد محمل بفيروس (سي) فانتشر الفيروس في كبدها -سلمها الله-، ثم تضاعف الأمر حتى أفسد كليتها، وتقول الفتاة: رأيت أمي يومًا وقد تعبت من العمل؛ لأنها تعمل مدرسة في الصباح، وخادمة في البيوت في المساء لأجل أن تجلب لي ثمن الدواء! وتقول الفتاة: حين رأيت أمي على هذه الحالة بكيت شفقة عليها، فهل يعد هذا البكاء تسخطًا على الله؟ تقول: أنا أحب الله ولا أريد أن ألقاه وهو علي غاضب؟ فقد أكرمني الله كثيرًا جدًا، ويكفي أنّه رزقني حبّه وحبّب إلي ذكره، ووعدني عند الصبر جنة عرضها السموات والأرض، لكن بكيت رغمًا عنّي، فهل هذا معناه أن الله أحبط عملي؟

أختنا أنت بالنسبة لها في عافية، ولو قدر لها أن تتمنى لتمنت أن تشفى لتكون مثلك، نعم -أختنا- كانت صابرة محتسبة وقواها على تجاوز محنتها هذا الإيمان العميق بربها، والاطمئنان لجنة تنتظرها عند الصبر على مصابها.

كما أن الإيمان معين قوي، كذلك تذكر نعم الله معين آخر، فما من أحد إلا وقد أنعم الله عليه ببعض الأمور، وتذكرها في مرحلة الابتلاء يرطب قلبه ويعينه على تجاوز محنته.

إن آفتنا أن الشيطان يصوّر لنا الحياة من عين الألم والبلاء، فيضيق على الإنسان صدره، ويجعله لا يتنفّس إلا من سمّ الخياط، ولو رأى نعم الله عليه بنفس تلك العين لحمد الله على نعمه، وصبر على البلاء.

الأمر الثالث: المعين الثالث مع الإيمان وتذكر النعم: القراءة في سير المبتلين وكيف صبرهم، ومن ذلك أن أحد السلف مرّ يومًا فسمع صوت رجل يقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا ممن خلق وفضلني تفضيلاً، فذهب فنظر إليه فإذا هو أقرع الرأس، أبرص البدن، أعمى العينين، مشلول القدمين واليدين، فقال له: مِمَّ عافاك الله وابتلى به خلقه! (الرجل أعمى وأبرص وأقرع ومشلول) فقال: ويحك يا رجل! جَعَلَ لي لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وبَدَنًا على البلاء صابرًا!

هذا الرجل لما نظر إلى البلاء نظرة مؤمن صابر محتسب، ونظر إلى البلاء من عين العطاء قال ما قاله وهو بنفس واثقة من عطاء الله عزّ وجل، وراضية عن قضاء الله تعالى، وكأنَّه يستحضر ساعتها قوله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن أن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ أن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيرًا له)).

أختنا الفاضلة: لا يخفاك أن هذه الدنيا هي في الأصل دار امتحان واختبار، وليست هذه هي دارنا، وإنّما مرحلة بسيطة يعقبها حياة أبدية، ولا بدّ فيها من ابتلاء ومحن حتى يعلم الكاذب من الصادق، والله عز وجل حكم عدل، ومن عدل الله أنّه وزّع البلاء على الجميع بحكمة، وما من إنسانٍ إلا وله حظه من ذلك، قد يقلّ هنا وقد يكثر هناك، وكل ذلك لحكمة، ولو كان أحد ناج من البلاء لكان الأنبياء صفوة خلق الله عز وجل، ولكن على العكس تمامًا هو أكثر أهل الأرض بلاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه))، وذلك لأنّهم يعلمون أن عظم الأجر على قدر عظم البلاء.

أختنا الكريمة: نتفهم بحثك عن عمل أفضل لك، وهذا أمر مشروع ومتفهم، وعلى الإنسان أن يبحث وان يجتهد لكن وفق أمرين:
1- ألا يهدر عمله الحالي حتى لا يجمع عليه المصائب.
2- أن يفهم أن الله له حكمة في كل شيء علمها من علمها وجهلها من جهلها، نحن في دنيا النّاس نحكم دائمًا على الظواهر، وكل فرد منّا يقيس الخير والشر على ما يراه، وهذا أمر طبيعي، لكن من منّا يدري أن الشر الذي يبتعد عنه قد يكون هو الخير الذي يرجوه ولا يعلم، ومن منّا يدرك أي الأمور هي له أصلح في الدنيا والآخرة، أن المؤمن الحقّ هو الذي يدرك أن كل ما أصابه فيه الخير له، وأنَّه متى ما صبر ربح الأجر والإعانة عليه، ومتى ما سخط خسر الأجر ولم يربح رفع الضر عنه.

وإنّه يؤمن أن ما فيه هو الخير له؛ لأنَّ حكمة الله وإن غابت عنه اليوم قد يعلمها في الغد، ونحن هنا نورد لك قصة ذكرها يحيى بن عاصم الغرناطي في كتاب: (جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى) عن بعض الكتب الإسرائيلية تبيّن من وراء كل بلاء أو نعيم حكمة بالغة: ذكروا أن نبيًا من أنبياء بني إسرائيل كان يجلس على قمّة جبل، فرأى فارسًا وبيده صُرة مال، وأتى على بئرٍ فوضع الصرة على حافة البئر ونزل فشرب، ثم نسي المال وانصرف، فجاء راعي غنم يسقي غنمه فوجد المال فالتقطه، وسقى الغنم وانصرف، ثم جاء رجلٌ شيخٌ كبير، فجاء البئر بعد انصراف الراعي فشرب وجلس، وتذكّر الفارس مالَه فرجع، فوجد ذلك الرجلَ يجلس على حافة البئر، قال: أين المال؟ قال: ما أعرف شيئًا، قال: المال معك، ولم يشكّ الفارس أنّه التقط المال، فلما أنكر الرجلُ أخرج الفارسُ رمحًا وقتله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُقْتَل البريء ويفر الآخذ؟ بالطبع هذا السؤال منّا الآن في موضعه؛ لأنَّ حكمة الله عنَّا غائبة، ولكن متى ظهرت حكمة الله تغيّر كل شيء، دعنا نكمل الرواية.

قال الله عز وجل له: أن لي حكمةً جَلَّت؛ أمّا هذا المال فكان مِلْكًا لوالد الراعي أعطاهُ والدَ الفارس، ولا يدري الراعي ولا الفارس، وأمَّا هذا الذي قُتِل؛ فإنَّه قتل أبا الفارس، فسلّطت ولي الدّم عليه، فأخذ بثأر أبيه، فأبَكى ذلك النبي وقال: لا أعود!" فتأمل بارك الله قيك كيف تغيرت الأمور كلها بعد أن اطلعت على حكمة الله البالغة.

أختنا الكريمة : أنت على خير عظيم والحمد لله، فلا تجعلي الشيطان يثبطك، اجتهدي وابذلي وتصدقي وافعلي كل خير أمامك، وثقي أن أقدار الله هي الخير لك لا محالة.

وفي الختام: إنَّنا ندعوك إلى أمرين:
1- تذكر ما أنعم الله به عليك إذا تذكرت البلاء الواقع عليك، وتذكر مع ذلك حكمة الله البالغة التي لا تنفك عن مشيئته، وتذكّر أن هذا قطعًا هو الخير لك، وأنَّ من وراء كل بلاء أجر.
2- نريدك أن ترحلي إلى قصص الصالحين المبتلين، وانظر كيف ابتلاهم الله، وكيف صبروا ثم كانت العاقبة لهم، واقرأوا قصة أيوب عليه السلام وطريقة مُنَاجاته لربه، وفيها من الآدابٌ ما ينبغي أن نراعيها، يقولُ أحد المعاصرين: وقصة ابتلاء أيوب عليه السلام من أروعِ القصص في الابتلاء، والنّصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل، وأيوب عليه السلام هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله {أنّي مسني الضر} ووصف ربه بصفته {وأنت أرحم الراحمين} ثم لا يدعو بتغيير حاله؛ صبرًا على بلائه، ولا يقترح شيئًا على ربه تأدبًا معه، وتوقيرًا.

فهو أنموذج للعبدِ الصابرِ الذي لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضرِّ الذي تضربُ به الأمثال في جميعِ الأعصار، بل إنَّه ليتحرَّج أن يطلب إلى ربّه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه اطمئنانًا إلى علمه بالحال، وغناه عن السؤال، وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب عليه السلام إلى ربّه بهذه الثقة، وبذلك الأدب كانت الاستجابة، وكانت الرحمة، وكانت نهاية الابتلاء، قال تعالى: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم}، رفع عنه الضرَّ في بدنه فإذا هو معافى صحيح، ورفع عنه الضرَّ في أهله فعوَّضه عمّن فُقد منهم {رحمة من عندنا}، فكل نعمةٍ فهي من عندِ الله ومنة، {وذكرى للعابدين} تذكرهم بالله وبلائـه ورحمته في البلاء وبعـد البلاء، وإنَّ في بلاء أيوب عليه السلام لمثلاً للبشرية كلها.

أختنا: نكرر على مسامعك، ما أنت فيه هو لون من الابتلاء، وهو سنة ماضية على كل البشر، وعند التأمل لن تجد أحدًا منعمًا عليه في كل وجه، ولا مبتلى من كل وجه، وأصل الحياة الابتلاء قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} فنحن في دار اختبار، ولا بدَّ من الابتلاء حتى ينال كل أجره، ولا يخفاك أن أحبّ الخلق إلى الله أنبياؤه، ومع ذلك هم أكثر النّاس بلاء، فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه)) الحديث، وفيه: ((حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) [أخرجه الحاكم من رواية العلاء بن المسيب عن مصعب أيضًا].

وأخرج له شاهدًا من حديث أبي سعيد ولفظه قال: (الأنبياء، قال: ثم من؟ قال العلماء قال: ثم من؟ قال: الصالحون)، وعن فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال: ((إنّ من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)). فاصبري واحتسبي واستعيني بالله عز وجل.

نسأل الله أن يفرج همك، وأن ييسر أمرك، ونحن في انتظار رسالة تبشرنا بها بصلاح حالك، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً