الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أستطيع تقبل أهل أمي ولا التأقلم معهم، أرشدوني للصواب.

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

سيدي المستشار كل ما أرجوه أن أوفق في صياغة مشكلتي، فهي متشعبة تمس أكثر من جانب من جوانب حياتي، سيدي مشكلتي هذه أتلظى بنارها منذ نعومة أظفاري.

أنا فتاة عمري 24 سنة، شاء الله أن أكون شخصية حساسة مرهفة، تنتبه إلى أدق التفاصيل فيما يختص بالتعامل مع الناس، أنتبه إلى تعبيراتهم ونبراتهم وأسلوبهم، وهذا حمل ثقيل على نفسي ومن هنا أصبحت شخصية خجولة جداً، لا يظهر خجلي أمام الناس وارتباكي لا أحد يلاحظه سواي، وحينما أكون مع أشخاص بعينهم يتعمق هذا الشعور وأصاب بإحباط شديد، وأجلس بينهم كالأثاث.

المشكلة أن هذا الإحساس المؤلم الذي أشعر معه بضرورة الانسحاب من المكان، يأتيني حين أكون مع أمي وأهلها، في الحقيقة هم شخصيات تحب السيطرة نوعاً ما، ولا يستمعون لمن هم أصغر سناً منهم، ويحبون إبراز ذواتهم في كل شيء، لباقتهم لا تظهر إلا مع الناس، فالناس هم جل اهتمامهم.

وهناك شيء آخر يضايقني في الحديث معهم، هو أنني عشت وتربيت في منطقة غير منطقتهم، فحينما أتحدث تغلب علي لهجة تلك المنطقة، فيبدأون بالتعليق ويشعرونني بالاستياء رغم محدودية كلماتي التي أنطق بها عندهم، أتمنى لو أصل إلى درجة من الثقة بالنفس، لا أعيرهم فيها اهتماما، ولكن -الحمد لله على كل حال-، أريد أن أصبح عذبة الحديث، أتحدث بنفس واحدة دون محاولة اجتزاء الكلام وتقصيره قدر الإمكان،أنا متيقنة أنني ذكية وموهوبة، لكنني أمام الناس أظهر بمظهر الشخص البليد، فلا يعيرونني اهتماماً.

وشيء آخر يضايقني وهو أنني أتمنى أن أنصح من حولي، ولكن يسيطر علي خوف وارتباك شديد بمجرد التفكير فقط، لا أريد أن يصبح الناس أكبر همي، ولكنها شخصيتي المتأصلة منذ الطفولة، في الحقيقة كل الناس في كفة ووالدتي في كفة أخرى، أتمنى لو أنها تفهمني وتستمع إلي وتحب حديثي، إنها لا تفكر في ذلك، وحين أصارحها بعد جهد جهيد تنفعل وتعتبر كلامي إساءة، رغم أنني -والله- أنتقي أطيب القول معها، لقد يئست منها، ما يزعجني أن هذا يؤثر بشدة على تعاملي معها، فأحاول بطريقة غير مباشرة أن أنتقم لنفسي إما بالعناد أو عدم اللباقة في حديثي معها، وأعرف أن هذا محرم شرعاً، لقد تعبت من نفسي حقا، أصبحت أكره الذهاب لزيارة أهل أمي لهذا السبب، هم أناس هزليون جداً، وأنا لا تناسبني هذه الشخصيات.

المشكلة أنني بدأت أكرههم، أحاول السيطرة على مشاعري بلا جدوى فهي قوية جداً، و تؤثر علي بشكل لا أملك السيطرة عليه، ما يزعجني حقا هو أنني لا أتعامل مع الناس بأريحية، وقد أرتكب الحماقات بسبب ارتباكي، ولا أظهر أمامهم بطبيعتي، بل أتكلف وأشعر بإجهاد شديد، بعدها تعبت من شخصيتي الغريبة، أشعر بحزن عميق إذا لم يستمع لي محدثي، وأتضايق من سماع حديثه، وأفقد الرغبة في المواصلة وأنتقم من هؤلاء بقطع العلاقة، أو بجعلها رسمية جداً.

أتمنى لو يتغير الوضع برمته، وأعيش حياتي بسعادة بدون وساوس وقلق واكتئاب، والتي تؤثر على نومي كثيراً، أتمنى لو أكون غير مبالية من ناحية الناس، وأن أشتغل فيما ينفعني، وأن أسامح الناس من صميم قلبي، أتمنى لو أستطيع إظهار أفكاري ومبادئي أمامهم بكل جرأة، حتى لو انتقدوني، وأن أكون جريئة في الحق، ولكن هيهات وأنا على تلكم الحال، حاولت مراراً أن أتغير وأتدرب بيني وبين نفسي على قول ما أريده، في الحقيقة لا أنكر أني نجحت جزئيا مع الناس، خارج أمي وعائلتها، ولقد كنت أظن في السابق أن الجميع على شاكلتهم و أن الجميع لن يرحبوا بالحديث معي والاستماع إلي، وسيشعرون بالضجر من حديثي، ولكنني اكتشفت غير ذلك، وأصبحت أرتاح مع بعض الأشخاص.

ولكن المشكلة مع أهل أمي، فأنا بالفعل أمل من الجلوس معهم وأشعر بضيق شديد بمجرد أن أجتمع بهم، هم يريدونني مؤيدة و مصفقة لما يقولون لا أكثر، وأنا أكره الشخصية التي تطبل للآخرين، وإن كانوا على خطأ، أريد أن أكون صريحة وواضحة، المشكلة أن أمي بمجرد أن تجتمع بأهلها تتغير معاملتها لنا، وتصبح شديدة علينا، وتجاملىأهلها وتتجاهلنا ولا تعيرنا اهتماما، وكأنها مستغنية عنا، لقد أصبحت بحق أكره زيارتهم لكل تلك الأسباب، وبسبب تغير أمي.

لقد صبرت على هذا الوضع كثيراً، لكنه أصبح لا يطاق، المشكلة أنهم يظنون أنفسهم مرحين، وهم في الحقيقة لا يجيدون سوى الاستهزاء والهزل في كل شيء، وهم ﻻ يحترمون بعضهم وعلاقاتهم متوترة، وأنا لا أطيق البقاء بينهم لدقيقة، أتمنى أن أسامحهم من كل قلبي، وأن لا أتضايق من وجودي بينهم.

شكراً، وأعلم أنني أتعبتك بقراءة رسالتي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أمل حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك -أختنا الفاضلة- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك من كل مكروه وأن يرزقك الفهم وحسن العمل وإنا سعداء بتواصلك معنا في أي وقت.

الأخت الفاضلة: رسالتك تدل على حسن التعبير عما يجول بخاطرك بدقة وتوازن، وتبين أنك إنسانة مثقفة وفي نفس الوقت متدينة، وأما الخجل والارتباك الذي تشعرين به مع بعض الناس أو أهلك خاصة، فيعود -في غالب الظن- إلى شدة حرصك على عدم الظهور بأي خطأ أمامهم لعدم قدرتك الداخلية والنفسية على الرد عليهم، هذا الحرص الزائد قد يدفعك إلى الارتباك، مع العلم أنك تحسنين الحديث وبطلاقة فقط إذا كنت في أمان نفسي من الحديث.

وأما الحديث عن الثقة فلا نظنك تحتاجين إليه، فأنت لست ضعيفة الثقة في قدراتك، بل على العكس إن الثقة عندك بذاتك ربما تجاوزت حد الاعتدال، لكنها لم تصل إلى درجة الغرور، وهذا ظاهر من مجموع رسالتك ومن تحليلك النفسي لكل من خالفك، ولعل قولك: (أنا متيقنة أنني ذكية وموهوبة)، يبين بوضوح مدى الثقة التي وصلت إليها.

ولكنّنا -أختنا الفاضلة- نأخذ عليك أمرا واحداً، وهو عدم قدرتك أو عدم محاولتك على استيعاب من حولك، فهناك فرق هائل بين الاستيعاب والمواجهة، وقد اخترت الثانية مع أي غلط ترينه أو تستشعرينه، ربما يكون سبب ذلك: ترصدك لهم ولأخطائهم ربما لمهاجمتهم الدائمة لك أو لعدم راحتك لهم، أو أن يكون السبب في ذلك هو محاولة التأكيد على إثبات الذات داخلك، برصد الأخطاء مع تضخيمها وعدم الوقوف على محاسنهم، وينبغي أن نبين لك -أختنا الفاضلة- أن الناس طبقات، وأن العقل رزق من الله -عز وجل- فقد يمنحك الله من العقل ما لا يمنحه بعض أقرانك، فحتما ستقابلين: البليد والغبي والمتغابي والمتذاكي والمدعي معرفة هي منه براء، والأفاك والكذاب، وكذلك ستقابلين الذكي والعاقل والحكيم وغير ذلك، وليس الحكيم من يعرف الفرق بين الذكي والغبي والنشيط والبليد، ولكن الحكيم من يجلس مع كلِ على حسب قدراته، فيجلس مع البليد يبث فيه روح الأمل من دون تعال عليه، ويستمع إليه مظهرا له سروره بذلك، وإنصاته له وينوي من داخله أن يدخل السرور عليه من ناحية، وأن يعلم من مشاكله ما يستطيع أن يحلها، ومن بلادته ما يستطيع تغير هذا الأمر عنه، وقد كان هذا -أختنا الفاضلة- منهج السلف الصالح ، فهذا عطاء بن رباح رضي الله عنه يقول: " إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد " ما منعه معرفته بالحديث من قبل أن يولد المتحدث به إليه ألا ينصت له.

أختنا الفاضلة: اجلسي مع أهل والدتك -على ما بهم من عورات وخطايا من وجهة نظرك- وابحثي عما فيهم من حسنات ومزايا، واجعلي العمل لله والأجر من عنده، وكلما وجدت مزية أعلنيها أمامهم وثقي أن الأمر سيتغير بعد محاولات قليلة، والمجاملات التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، ولا توقع في معصية، فلا بأس بها لأجل تأليف القلوب، واعلمي -أختنا الفاضلة- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقابل أصحابه بما يكرهون، بل إن بعض الناس كان النبي لا يحبهم وكان لا يجابههم بذلك، فقد أورد الإمام البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أنه استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول؟! فقال: أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو وَدَعَه الناس اتقاء فحشه" والحديث رواه مسلم أيضاً. هذا مع هؤلاء على ما بهم فكيف بمن هو رحم وأهل.

لا بأس -أيتها الفاضلة- ببعض المداراة التي تتألفي بها قلوب أهلك، وهي من أخلاق المسلم الفطن، قال الإمام ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه.

نسأل الله أن يوفقك لكل خير، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً