الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعاني من الوسواس القهري منذ الطفولة.. فكيف الخلاص منه؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية أشكركم على هذا الموقع، وعلى جهودكم الحثيثة.

أنا ممن عانوا الوسواس منذ الطفولة، فبدأ معي منذ الابتدائية، فقد اهتممت بترتيب الأحذية والأغراض بشكل معين، وأن أمشي خطوة للأمام وأعود للخلف والعد، ولم أكن أعلم أن ما أعانيه هو وسواس قهري، ثم عندما أصبحت في الثالثة عشرة من عمري بدأت أخجل من تصرفاتي، وأصبحت أروض نفسي لأتخلص منه وفعلاً نجحت وتجاهلته، وما زلت لا أعلم أنها وسواس، ثم بدأ عندي وسواس التفقد بعدما حصلت معي حادثه وأضعت حقيبتي، وصرت أتفقد أغراضي كل دقيقة، وأتفقد قفل الباب عشرات المرات والغاز والفرن، وعندما تزوجت جاهدت نفسي لأتخلص من سواس التفقد فتغلبت على معظمه، وتحسنت منه ولكني لم أشف تماماً.

بعدها بدأت معي وساوس من نوع آخر، وساوس عقائدية ودينية، فقلقت على ديني وهنا بدأت بالبحث على النت فعلمت أن ما أعانيه كل هذه السنين هو الوسواس القهري، وأنا لا أعلم ما الذي يحصل بعقلي، ثم أصبحت أستمع للمشايخ فعلمت أن الوسواس العقائدي يرحل مع التجاهل، وأني لا أحاسب عليه فاختفى كلياً من حياتي -والحمد لله-، وبدأ معي وسواس هو الأفظع في حياتي وهو الوسواس المرضي، وأصبحت أوسوس بالسرطان بأنواعه، وخائفة من الموت أو فقدان أحبائي، وأنا أعاني منه بشكل فظيع وأتألم.

أرجو منكم المساعدة والمشورة، وكيف الخلاص من الوسواس المرضي؟ وهل يمكن الشفاء من الوسواس القهري بدون العلاج الدوائي؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ الهام حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

شكراً لك على التواصل معنا والكتابة إلينا، وشكراً على الوصف الدقيق والجيد لحالة الوسواس التي مررت وتمرين فيها الآن، ودعيني أتحدث عن عدة جوانب.

الجانب الأول: من الواضح أنك تعانين الآن من حالة نفسية معروفة نسميها "وسواس رهاب المرض"، عندما ينشغل ذهن المصاب على صحته، معتقداً بأن لديه مرضاً ما كالسرطان أو غيره، وسواء أصابه أو أصاب أحد أفراد أسرته، وأن الأطباء إما أنهم يعلمون بهذا إلا أنهم لا يخبرونه بهذا صراحة، أو أنهم لا يعرفون لأنهم لم يكتشفوا بعد هذا المرض، ويعتقد الشخص أنه يحتاج للمزيد من الوقت، والمزيد من الاختبارات والفحوص، والمزيد من آراء الأطباء المختلفين، حتى يصل للتشخيص الذي كان يخافه كل هذا الوقت، وفي كثير من الأحيان تترافق هذه الحالة بما وصفت من أعراض، والتي تصل بعد حين للخوف من مغادرة المنزل خشية حدوث شيء ما، وقد يبدأ الشخص يخاف من كل ما له علاقة بالمرض، وحتى الأمور التي يمكن أن تذكر بالموت، وحتى تلاوة القرآن.

وبصراحة في كثير من الحالات مهما قمنا بالمزيد من الفحوصات والاختبارات، ومهما تعددت آراء الأطباء بالتخصصات المختلفة، فكل هذا قد لا يُذهب عن ذهن هذا الشخص فكرة المرض، فإذا به ومن جديد يبدأ سلسلة جديدة من الأطباء ومن الاختبارات، سواء في نفس البلد أو حتى السفر لبلاد أخرى من أجل الوصول إلى "جذور المرض، ومعرفة هذا التشخيص".

والجانب الثاني: أنه أحياناً تكون عندنا ما نسميها الرغبة والميل إلى الكمال، عند الشخص الذي لا يستطيع فعل شيء إلا أن يكون "كاملاً"، مما يمكن أن يسبب الكثير من التوتر والقلق، ومما يمكن أن يفتح الطريق للوسواس.

والجانب الثالث: هو موضوع الوسواس القهري حيث تأتيك رغماً عنك أفكار وسواسية قهرية تتعلق ربما بالطهارة والنظافة، ولاشك أنك تحاولين دفعها بعيداً عنك، إلا أنها تستمر وتعود مجدداً بالرغم من أنها مزعجة ومؤلمة بما فيما من أفكار غير مقبولة بالنسبة لك، وكل هذا يدخل في تعريف الأفكار الوسواسية القهرية، ويفيد أن نذكر أن هذه الأفكار الوسواسية ليست من صنعك، ولست مسؤولة عنها، فهي أفكار قهرية، ويفيد كذلك أن نذكر أن هذه الأفكار الوسواسية ليست مؤشراً لأمر خطير سيحصل لك، أو لأحد أفراد أسرتك، بالرغم من إزعاج مثل هذه الأفكار، وقد لا يفيد كثيرا محاولة مقاومة هذه الأفكار، ولا تفيد المبالغة في دفعها، وربما الأكثر فائدة هي ترك هذه الأفكار تأخذ "دورتها" حتى تخفّ من نفسها، رويداً رويداً، ومن أصعب الوساوس هي الوساوس المتعلقة بالعبادات من وضوء وصلاة.

اطمئني من أن كل ما يدور في ذهنك من هذه الوساوس، وربما غيرها كثير لم تذكريه لنا لخجلك منها، أو ارتباكك من ذكره، كلها وساوس لست مسؤولة عنها، لأن من تعريف الوساوس أنها أفكار أو عبارات أو جمل أو صور تأتي للإنسان من غير رغبته ولا إرادته، بل يحاول جاهداً دفعها عنه، إلا أنها تقتحم عليه أفكاره وحياته وهو لا يريدها، صحيح أن بعض الناس وخاصة ممن لم يصب بالوسواس يجد صعوبة كبيرة في فهم هذا الأمر، إلا أن هذا لا يغيّر من طبيعة الأمر شيئاً، ويبقى الوسواس عملاً ليس من كسب الإنسان، وليس من صنعه.

وليس الوسواس دليلاً أو مؤشراً على "الجنون" أو فقدان العقل، كما قد يشعر بعض المصابين، وإنما هو مجرد مرض نفسيّ، أو صعوبة نفسية قد تصيب الإنسان لسبب أو آخر، كما يمكن لأمراض أخرى أن تصيب أعضاء أخرى من الجسم كالصدر والكبد والكلية، وكما أن لهذه الأمراض علاجات، فللوسواس وغيرها من الأمراض النفسية علاجات متعددة، دوائية ونفسية وسلوكية.

وتكثر عادة أسئلة الناس عن الوساوس، مما يعكس أولاً مدى انتشارها بين الناس، وإن كان من المعتاد أن لا يتحدث الناس ولا حتى المصاب عنها إلا بعد عدة سنوات ربما، حيث يعاني أولاً بصمت ولزمن طويل قد يصل لسبع أو تسع سنوات، ولذلك أشكرك على أن كتبتي لنا تسألين.

إن وضوح التشخيص، وفهم طبيعة الوسواس من أول مراحل العلاج -وربما من دونه قد يستحيل العلاج- ويقوم العلاج على ثلاثة أمور:
الأول: العلاج النفسي المعرفي: وهو عن طريق تغيير القناعات والأفكار المصاحبة للوسواس القهري، ويمكن مع هذه المعالجة المتخصصة أن تتغيّر هذه الأفكار ونستبدلها بأفكار أكثر صحة وسلامة، ويقوم على هذه المعالج الطبيب النفسي المتدرب على هذا النوع من العلاج، أو الأخصائي النفسي المتخصص.

والعلاج الثاني: هو العلاج السلوكي، وهو عن طريق تعريض المصاب للفكرة الوسواسية التي تراوده، ومن ثم منعه من القيام بالعمل القهري، وستلاحظين بعد فترة أنك لم تعودي تشكين في الأشياء التي كنت توسوسين حولها، وهناك من يجمع بين العلاجين المعرفي والسلوكي بحيث يستفيد من إيجابيات كل منهما.

والعلاج الثالث: وهو في الواقع لا يغني عن السابق، إلا أنه يساعد كثيراً في تخفيف شدة الأعراض، ويساعد الشخص على التكيّف المناسب، وهو العلاج الدوائي، بأن يصف الطبيب النفسي أحد الأدوية المضادة للاكتئاب وليس لوجود الاكتئاب، وإنما وجد من خلال التجربة أن مضادات الاكتئاب تحسّن شدة وطبيعة الأفكار الوسواسية والأعمال القهرية، ولابد من متابعة هذا العلاج الدوائي مع الطبيب النفسي لأن استعمال الأدوية المضادة للاكتئاب يحتاج إلى المتابعة القريبة من قبل المتخصص.

وطالما أن تطور المرض عندك بهذا الشكل الذي وصفت فإني أنصحك بمراجعة طبيب نفسي في المدينة التي تعيشين فيها، وسيقوم هذا الطبيب بأخذ القصة كاملة، ومعرفة الأمور الكثيرة التي لم تخبرينا عنها كنمط الحياة، وعلاقاتك الأسرية والاجتماعية، وتاريخ طفولتك، وطبيعة حياتك اليومية، وهل عندك بالإضافة لانشغال البال بالأمراض، هل عندك شيء من الأعراض النفسية الأخرى كالاكتئاب وغيره؟ ومن ثم يمكن لهذا الطبيب النفسي أن يقوم بعد التشخيص بالعلاج المطلوب، ولابد للطبيب النفسي من تحري هذا والقيام بتقديم العلاج المطلوب.

وفقك الله وكتب لك التعافي.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً