الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أوفق بين علاقتي بالله ورغبتي في إكمال دراستي؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في البداية أحب أن أشكر القائمين على هذا الموقع المبارك, وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكون حجة لكم لا عليكم يوم القيامة, إنه ولي ذلك والقادر عليه سبحانه.

سأحاول الاختصار قدر المستطاع, وإن أطلت فبغير قصد, وسيكون كل شيء واضح بإذن الله تعالى.

أنا شاب أعزب, عمري 24 سنة, مؤهلي دبلوم سنتان بعد الثانوية, على اطلاع بأمور عقيدتي ولله الحمد, أستمع للمشايخ والعلماء الفضلاء, كالشيخ صالح المغامسي, والمنجد, والشنقيطي, وغيرهم الكثير الكثير, وهذا كله من فضل الله علي.

منذ 4 أشهر تقريبا قررت أن أقدم استقالتي من الشركة التي كنت أعمل فيها, وفي الحقيقة لم أكن مرتاحا من الوظيفة التي أعمل بها, أو أريد الأفضل, أو ربما أن هناك وظيفة ما تلائمني بشكل أفضل, وجدت كثيرا ممن يعارضني حيال هذا القرار, وقد كان بعد التفكير الشخصي, ثم الاستخارة, وبعد رغبة مني, متوكلا على الله, محسنا الظن به أنه سيوفقني لما يحب أن أكون في المستقبل.

ما بين استقالتي من الشركة إلى انتقالي للشركة الحالية؛ وذلك منذ شهر تقريبا؛ طرأ علي موضوع إكمال الدراسة للحصول على بكلوريوس في مجال التخصص الذي أريد العمل به, لقد بات يؤرقني كثيرا, حيث أصبحت مقصرا في حق نفسي, وفي الفروض, ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أصبحت أنام قبل وقت الصلاة بوقت قليل, ويكون لدي اكتئاب كثير, والآن في شهر رمضان أقرأ القرآن, ولكن كما أنا أجد قلبي معلقا بحب الدنيا, وأنني متمسك جدا في إكمال مسيرتي التعليمية, وأبحث كثيرا في المواقع, وأفكر كثيرا في مستقبل الصلاة, إذ لا أخشع فيها, وأفكر كثيرا في الصلاة, ولا حول ولا قوة إلا بالله, حالي مع الله كل يوم أشعر أنه يزداد سوء.

ما السبيل إلى فك هذا التعلق؟ وهل أفعل كما يقول الناس: دع الآخرة في قلبك, والدنيا في يدك؟ كيف أستطيع فعل هذا؟

أعلم أن الذي أفعله خطأ, وهو التهاون في الصلاة, أريد أن يكون لدي قناعة بعملي الحالي إلى أن أحصل على المؤهل بإذن الله تعالى, وعلى العمل في المجال الذي أرغبه, وأن يكون ربي راضٍ عني, وأخاف كثيرا من أني لا أستطيع إكمال دراستي.

منذ فترة طويلة جدا بكيت لله عز وجل, حتى وقت الخلوة يكون كل شيء كأنه عادي, ولا أشعر بشيء كبير أو بتغير, لا أريد أن أقلق للغد, كيف أوفق بين علاقتي مع الله عز وجل, ومع عملي, ومع الهدف الذي أريده؟

أفيدوني جزاكم الله خيرا, وبارك الله فيكم وفي أوقاتكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد عمر حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه..

نرحب بك ابننا الكريم في موقعك، ونسأل الله أن يلهمك السداد والصواب، ونخبرك بأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين الله تبارك وتعالى أصلح الله له ما بينه وبين الخلق، وأصلح الله له شأنه كله، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جمع الله شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة، فاجعل الهموم همًّا واحدًا، واجعل رضوان الله تبارك وتعالى, وما عند الله هو الهدف الأسمى، ولا يعني ذلك أن يتخلى الإنسان عن دنياه، أو عن فعل الأسباب، فالمسلم يفعل الأسباب ثم يتوكل على الكريم الوهاب سبحانه وتعالى، وأرجو أن تُدرك أن كل شيء في هذه الحياة ينبغي أن يأخذ حجمه، لأننا أصلا خُلقنا للعبادة، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ} أما الأرزاق فقد تكفل بها الوهاب سبحانه وتعالى، وطلب إلينا وندبنا إلى فعل الأسباب، إلى أن نسعى في الأرض، قال تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} علينا أن نعقلها ثم نتوكل على الله تبارك وتعالى.

هذه الدنيا التي لا بد للإنسان أن يسعى فيها ينبغي ألا يشغله ذلك السعي عن وظيفته الكبرى، وينبغي ألا يشغله ذلك السعي عن صلاته وطاعاته لله تبارك وتعالى، وينبغي ألا يأخذ منه ذلك السعي يكون على حساب المهمة التي خُلق من أجلها، ولذلك التوفيق لن يكون صعبًا، لأن هذا الدين العظيم إذا قصد فيه الإنسان وجه الله تبارك وتعالى بعمله فحول العمل إلى عباده، إذا احتسب في أكله وشربه تحول الأكل والشرب إلى عبادة، والعبادة عندنا اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأحوال الظاهرة والباطنة.

هذه الشريعة العظيمة التي شرفنا الله تبارك وتعالى بها تستوعب هذه المجالات، والتوفيق سهل بين الوظيفة بأن تتقن العمل، تراقب الله فيه، تؤديه على أكمل الوجه، تبتغي بهذا العمل وجه الله، تقصد نفع الأمة، تقصد الوفاء لمن يأتمنك، فيُصبح عداد الحسنات والحسنات تمضي وأنت تعمل في هذه الوظيفة، فإذا أذن للصلاة وأنت في الوظيفة فينبغي أن تتوقف مباشرة للصلاة، كما كان السلف يفعلون، حتى وجد بعضهم كان يعمل في الحدادة فكان يرفع الفأس –أو القدوم– فإذا سمع الأذان لم يترك القدوم على الحديد وإنما رمى بها، قيل له في ذلك؟ قال: أستحي من الله أن يراني أشتغل بغير طاعته وقد دعا الداعي إلى الصلاة.

إذا فرغ الإنسان من صلاته فإن النداء القرآني يقول: {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون}. إذا الإنسان لبى النداء, فسجد لله, ثم يخرج بعد ذلك بروح الصلاة التي تعلمها، روح الارتباط بالله تبارك وتعالى، ليؤدي وظيفته، ليؤدي عمله، ليزور رحمه، ليحقق أهدافه في هذه الحياة، هذا كله لا تعارض فيه شريطة أن يفقه الإنسان هذا الدين، كما قال معاذ: (والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قوْمتي).

أما بالنسبة لهدف ومواصلة الدراسة فهذا أيضًا هدف مشروع، ندعوك إلى أن تحسّن فيه النية، بداية تجعل نيتك لله، أنك تريد أن تقدم خدمة لنفسك ولأمتك ولدينك، وتريد أن تطور من قدراتك، هذه كلها نيات صالحة، فينبغي أن تنظر في هذا الهدف وتتأمل فيه، هل أنت بحاجة إلى الأموال؟ هل هناك من يقوم بواجب الإنفاق عليك؟ هل الأسرة بحاجة إليك؟ هل العمل الآن يتطلب هذا الإعداد وهذا التأهيل في هذا المجال؟ .. هذه أسئلة لا بد أن نجيب عليها.

ثم هل أنت الآن ظروفك الأسرية تسمح لك بمواصلة الدراسة؟ مع أننا في كل الأحوال أن مواصلة الدراسة هي خير كثير، لأن الإنسان لا يندم على زيادة التأهيل وزيادة الشهادات التي يحصل عليها، لأن كل ذلك مما يعين الإنسان على النجاح في الحياة، لأن هذا نوع أيضًا من بذل الأسباب، بأن يملك الإنسان المؤهلات العالية التي تؤهله لإتقان العمل، فيتقن هذا العمل ليجد الأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.

أنت تبحث عن العمل، وأنت تمشي في الطريق، ينبغي أن يكون لسانك رطبًا بذكر الله تبارك وتعالى، لذلك قال: {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} ثم قال: {واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} وذكر الله هنا بمعنى ذكر الله عند ورود أمره، عند ورود نهيه، ذكر الله في الأحوال التي علمنا إياها رسولنا -عليه صلوات الله وسلامه– ذكر الله بمراقبته وخشيته في السر والعلانية سبحانه وتعالى، ذكر الله عند العمل فيتقن العمل، ذكر الله إذا تعرض لمعصية فيبتعد عنها، ذكر الله إذا وجد أذىً في الطريق أماطه، لأن إماطة الأذى شعبة من شعب الإيمان.

إذن هذا هو المعنى الذي ينبغي أن تكون عليه، وأرجو أن تغتنم فرصة الصيام، في السجود لله تبارك وتعالى، في المبادرة إلى الصلوات، فإذا انقضى رمضان فعلينا أن نستمر على ما تدربنا عليه في شهر الصيام، وقد سُئل الإمام أحمد: كيف نعرف أن صيامنا قد تقبله الله؟ فقال للسائل: إذا وجدت نفسك بعد رمضان تستمر على ما تعودته من الطاعات فاعلم أن صيامك قد تقبله الله.

إذن نحن في رمضان نتدرب على الحرص على الصلوات، تلاوة الآيات، نتسابق الجمع والجماعات، فإذا مضى رمضان فينبغي أن نستمر على هذا الذي تدربنا عليه وتعودنا عليه، لأن عبادة الله ليست في رمضان وحده، وبئس القوم قومٌ لا يعرفون الله إلا في رمضان، وعليه فإن مسيرة التصحيح وتصويب حياتك تبدأ بالانتظام في الصلاة، ثم بمعرفة الغاية التي خُلقت من أجلها، ثم بعد ذلك عليك أن تُدرك أن كل عمل, وكل حركة وسكنة ينبغي أن تحتسب فيها, وتعتقد فيها نية، وبذلك ستتحول الحياة عندك من بدايتها إلى نهايتها –من ألفها إلى يائها– إلى عبادة وطاعة لله تبارك وتعالى.

نوصيك بتقوى الله، ثم بكثرة اللجوء إليه، ثم بالمواظبة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ثم بالاستغفار، وبكثرة الصلاة على نبينا المختار –عليه صلاة الله وسلامه– وأيضًا نشجعك على تأهيل نفسك والتواصل مع الآخرين، ونسأل الله لك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً