الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مديري في العمل ظلمني وجعلني أكره الآخرين ... فهل تنصحوني بالاغتراب؟

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد بن عبد الله
أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, بارك الله لكم, ورزقكم الفردوس الأعلى لما تقدمونه للشباب من خدمات, وتوجيهات مفيدة.

سيدي المستشار:
لقد عانيت كثيرًا من الظلم في العمل, ويشهد الله أني مجتهد, وزملائي في العمل يشهدون لي بالكفاءة, وعبقرية التفكير - على حد قولهم - لكن المشكلة تأتي غالبًا من مدير لا يريد من هم مثلي, وإنما يريد من ينافقه ويجامله, ويلهث وراءه, ويستميت لينال شرف تحيته في الصباح, ومن يسعون بالوقيعة بين الناس.

أخي الحبيب: كانت لي تجربة العمل مع مدير بريطاني ليس له دين, ولكنه لم يظلمني مثلما فعل مديري العربي المسلم, هل تري الحل أن أهاجر لإحدى الدول الأوروبية؟ حيث أخبرني من أعرفهم جيدًا أن العمل بجد وحده هو مفتاح النجاح, والوصول للمناصب, وليس النفاق والكذب, وتضليل الناس, وقلب الحقائق.

أخي الفاضل: يقول زملائي وأيضًا أولي القربي: إني لا أصلح للحياة في الزمن الحالي؛ لأني لا أجيد فن المراوغة والالتفاف حول الحقائق, ولا أحب المداهنة والرياء.

أشعر أن كلامهم صحيح, ولكني لازلت أعيش بمبادئ لا أتخيل حياتي دونها, بماذا تنصحني - يا سيدي المستشار -؟

المشكلة الثانية التي أعتقد أنها مترتبة على الأولى أني أصبحت أحب الليل والسهر جدًّا, ولا أفيق قبل صلاة العصر، أحب الجلوس وحيدًا حتى بعيدًا عن الأهل والأصدقاء لفترات طويلة من الوقت, ثم أعود فأتواصل معهم بعد فترة طويلة.

لا أحب أن يراني الناس, أو أن أرى أحدًا، هل أنا مصاب بالتوحد؟

علمًا أني بعمر 33 سنة, جامعي, أعزب, وسبب تأخري في الزواج أني دائمًا أبحث عن الكمال, ولا أحب الدخول في مشاكل.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مواطن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:

إنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت, وعن أي موضوع، ونسأل الله الجليل جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبارك فيك، وأن يثبتك على الحق، وأن يهديك صراطه المستقيم، وأن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يرد عنك ظلم الظالمين, وحقد الحاقدين, واعتداء المعتدين، وأن يرزقك الأمن والأمان والاستقرار في الدنيا والآخرة، وأن يمنّ عليك بزوجة صالحة طيبة مباركة تملأ عليك حياتك, وتكون عونًا لك على طاعته ورضاه.

بخصوص ما ورد برسالتك – أخي الكريم الفاضل – فإنه مما لا شك فيه أن الظلم أَمرُّ من العلقم، وأن الظلم يجعل الإنسان يفقد تركيزه, ويفقد ثقته في نفسه، خاصة إذا كان يقدم أشياء متميزة، ويعرف عنه الجودة والفهم لعمله, والتفاني فيه، ثم يفاجأ بأن الآخرين ليس لديهم تلك المهارات, وهم الذين تتم ترقيتهم, ووصولهم أيضًا إلى صناعة القرار، أما هو فيشعر بأنه منبوذ نتيجة أن مدير العمل قد يرى في تميز هذا الموظف نوعًا من التهديد بالنسبة له؛ لأنه غير منصف, ولأنه قد يكون جاهلاً, أو ليس بهذا المستوى فيحاول أن يتخلص دائمًا من المتميزين.

أنا أقول: كان الله في عونك، فهذه المسألة فعلاً في غاية الألم، ولكني أحب أن أقول لك بأنك لست وحدك في هذه المنظومة، فهناك الآلاف المؤلفة في كل مواقع العمل في الحياة الدنيا كلهم يعانون هذه المعاناة, نعم, قد يكون الناس في الغرب ليست لديهم تلك الأمراض – وهذا حق – ولكن لديهم أمراض أخرى من أنواع أخرى أشد مما تتكلم أنت عنه، نعم إن هؤلاء يعيشون نوعًا من العدل والإنصاف، وأنا أكلمك الآن من السويد، والسويد كما تعلم دولة متميزة في موقعها بين الدول الإسكندنافية, وتتمتع بنظام إداري رائع, ونظام اجتماعي متميز، ورغم ذلك لو عشت معي – كما أعيش أنا الآن – لوجدت السواد الأعظم من المسلمين يرغبون في العودة إلى بلادهم مرة أخرى؛ لأن أبناءهم قد ضاعوا!

أخي الكريم الفاضل: نعم، من يعيش هنالك هو أصبح الآن مستريحًا, وأصبح يتقاضى راتبًا معقولاً, وله سكن مجاني, وكهرباء مجانية, وماء مجاني, وتعليم مجاني, وصحة مجانية, ومستريح، بعضهم لا يعمل, ورغم ذلك يتقاضى راتبًا كبيرًا؛ لأن هناك نوعًا من العدل في هذه البلاد، ولكن ما هي المحصلة؟ وما هي النتيجة؟ النتيجة أنهم عندما احتكوا بالمنظومة السويدية وتعلموا هذه العلوم التي وضعها هؤلاء لتربية أبنائهم فسدوا، فأصبح الأب لا يستطيع أن يتكلم مع ابنه كلمة واحدة، بل إني سأذكر لك – وسامحني – حادثة حدثت بالأمس فقط، فقد وجد إمام المسجد أن هناك طفلاً يُحدث شغبًا كبيرًا في المسجد, وأفسد على الناس صلاتهم، فما كان من الأخ الإمام إلا أن قال له (هس) فقط، يعني كلمة بسيطة, وأنت تعرف عندنا في مصر أنها ليست صعبة – أو في العالم العربي – فما كان من الولد إلا أن ظل يتكلم باللغة السويدية, وخرج إلى باب المسجد, وخرج إمام المسجد وراءه، لماذا؟ لأن الولد يقول: أنا سوف أتصل بالشرطة الآن ليُغلقوا هذا المسجد، كيف هذا الإمام يقول له هس؟!

هذا الكلام - بارك الله فيك - في البيت, وفي العمل, وفي المدرسة، لا يستطيع مدرس أن يتكلم مع الطالب أبدًا كائنًا من كان، ولا الأب أن يتكلم مع ابنه، ولا الأم أن تتكلم مع ابنتها أو ابنها مطلقًا، وبعض الأخوة يأتي مقهورًا عندما يتكلم مع ولده ويقول له: تعال معي إلى المسجد, فيقول له: أنا لا أريد، فلا يستطيع أن يقول له مرة أخرى من أجلي تعال إلى المسجد، لا يستطيع؛ لأنه إذا كرر الكلام سيقول له: سأتصل بالشرطة، وهذه مسائل أخري الكريم تقتل؛ ولذلك يتعلمون الفساد بطريقة سهلة؛ لأن هؤلاء ليسوا مسلمين، يربون أبناءهم بطريقتهم التي يرونها مناسبة.

الفتاة في الثامنة عشرة من العمر تخرج بعيدة عن الأسرة, تعيش حياتها براحتها, مع أي إنسان تختاره, وتعيش حياة كحياة البهائم, وتنتهي رحلتها على ذلك، وتظل تتردد من شاب إلى شاب, ومن بيت إلى بيت, ومن مدينة إلى مدينة، وليس لها أي قيمة أو استقرار؛ لأنها لا تعرف الأسرة، بل إن الأسرة نفسها عندما تصل البنت لهذه السن يقولون (اخرجي) وكذلك الولد، وبدأ أبناء المسلمين من بنين وبنات يفعلون هذا إلى الحد الأدنى، الولد يترك أباه وأمه, ويخرج ويبحث له عن أي واحدة يعيش معها كحياة الحيوانات – أجلّك الله – بعيدًا عن أي قيمة ومبادئ.

هذا الذي تتكلم عنه - بارك الله فيك -من هذه السوءات أهون مليون مرّة مما ستلاقيه في بلاد الغرب.

ثانيًا: إن أنت خرجت, وأنا خرجت, وخرج كل أصحاب القيم وتركنا هؤلاء الرعاع يحكمون الناس ماذا تتصور؟ ستكون الحياة في قمة القسوة, وفي قمة العنف، فالله تبارك وتعالى شاء أن يوجدك وسط هذه الأخلاق حتى لا تموت المروءة في الناس، وحتى يعلم الناس أن هناك من يقف مع الحق, حتى وإن كان يدفع ثمنًا لذلك.

أنت - بارك الله فيك -تلعب دورًا مهمًّا في عملية التوازن ما بين الحق والباطل، فأرى أن تظل على ما أنت عليه, وتحتسب أجرك عند الله، واعلم أن الله تبارك وتعالى لا يحب الظالمين، ووعدهم بالعذاب الأليم، وحقك سيأتيك كاملاً غير منقوص.

فيما يتعلق بمسألة السهر الطويل: أرى أن هذا ليس طبيعيًا، ولذلك أنا أرى - بارك الله فيكَ وجزاك الله خيرًا - ضرورة أن تعرض نفسك على أخصائي نفسي؛ لأنه أخشى أن تكون مصابًا بمرض التوحد، ولذلك سأحيل الأمر - بإذن الله تعالى – إلى أحد إخواني الأخصائيين النفسيين لعله أن يضع لك وصفة أو برنامجًا للتخلص من هذا التوحد؛ لأنك بذلك تعرض نفسك لخطر عظيم، فإن الإنسان مدني بطبعه, ويستحيل أن يعيش وحده، فإذا رضي بالحياة وحده فمعناه أنه غير طبيعي.

هذه الحالة تحتاج إلى أحد الأخصائيين النفسيين، والطبيب النفسي - إن شاء الله - سيقدم لك نصيحة والحكم على حالتك, هل هي من التوحد أم لا؟ ولكني أنصحك أن تغير هذه العادة؛ لأنها خلاف فطرة الله تعالى، فأنت الآن تنام من بعد الفجر إلى صلاة العصر وتضيع عليك صلاة الظهر، والنهار هو العمل، والليل هو النوم، كما قال الله تبارك وتعالى: {وجعلنا الليل لباسًا * وجعلنا النهار معاشًا} فأنت بذلك تقلب الآية - أخي الكريم –.

ثانيًا على ذلك: هناك خلايا وغدد في جسدك لا تنام إلا بالليل، فأنت بذلك تُرهق جهازك العصبي إرهاقًا شديدًا جدًّا، فحاول - بارك الله فيك - أن تقلل من عملية السهر, ولو بصفة تدريجية، وأن تنام مبكرًا، وأن تستعين بالله تعالى، وأن تكثر من الذكر والاستغفار والدعاء في أول النوم حتى يأتيك النوم مبكرًا، وحاول أن تنام على وضوء, وأن تنام على السنة، وأن تدعو الله تعالى أن يعينك أن تنام مبكرًا لتعود إلى وضعك الطبيعي.

قضية الزواج أيضًا أرى أن تأخيرها مما لا شك فيه هو ردة فعل لما أنت عليه، ولكن لا أراه صوابًا، فاستعن بالله وتزوج عاجلاً غير آجل، لعل الله أن يصلح لك حالك، ونسأل الله لك أن يقدر لك الخير حيث كان ثم يرضيك به، وأن يستخدمك لخدمة دينه، وأن يجعلك مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.

هذا وبالله التوفيق.

انتهت إجابة الشيخ موافي عزب - مستشار الشؤون الأسرية والتربوية - وتليه إجابة الدكتور محمد عبد العليم - استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان -:

لقد أفادك الأخ الشيخ موافي عزب بكل الإرشاد المطلوب حول أسئلتك واستفساراتك، ومن الناحية النفسية أؤكد لك نفس الحقائق التي أكدها الشيخ موافي عزب، وأود أن أضيف أن الإنسان يجب أن تكون له درجة من التحمل للآخرين أيًّا كانوا، في محيط العمل، في المجتمع، في الشارع، في البيت، ومن الصعوبة جدًّا أن نفرض منظوماتنا القيمية على الناس، والإنسان قد يكون منضبطًا ومنظمًا ومرتبًا, ولا يعتدي على الآخرين أيًّا كانت طريقة ونوع ودرجة هذا العدوان، ولكنه في ذات الوقت أيضًا قد لا يتقبل أي نوع من الخدوش أو الجراحات, حتى وإن كانت بسيطة إذا أوقعها به الآخرون.

أنا أرى أن شخصيتك تحمل سمات انضباط وصرامة ذاتية، وهذا أمر جيد؛ لأن ذلك يجعلك منتظمًا ومثابرًا في عملك, ولا تميل إلى الفوضوية بأي حال من الأحوال، لكن لذلك تبعات، وهي أنك تجد صعوبة كبيرة جدًّا في قبول الآخر.

هذا الأمر يعمل من خلال ديناميات على مستوى العقل الباطني, وكذلك على المستوى الشعور الظاهر, وهذا المدير الذي لا ينصفك أعتقد أنه سوف يستكين يومًا من الأيام, وإن شاء الله هذا اليوم قريب، وذلك من خلال أن تفرض إرادتك المنتظمة عليه، أن تكون منضبطًا في عملك، أن تكون مثابرًا، أن تسير على نفس النهج، مهما كان هذا المدير ووضعه في الشركة، حتى وإن كانت شركة مملوكة للأسرة، ففي نهاية الأمر العمل يعود إلى صاحب العمل – أيًّا كان – أنت يجب ألا تأخذ الأمور أخذًا شخصيًا، وفي ذات الوقت اجعل في نفسك سعة لاستيعابه، وكما نحب الخير واستيعابه لابد أيضًا أن تكون لنا القدرة لاستيعاب الشر – على الأقل – ولو كان جزئيًا.

شيء آخر هو: أن تحاول جهد ما تستطيع أن تنظر إلى الأمور الإيجابية في هذا الرجل، لابد أن تكون هنالك إيجابيات، وتذكرك للإيجابيات حوله وفيما يتعلق بتصرفه هذا - إن شاء الله تعالى – سوف يقلل من حدة توقعاتك السلبية نحوه, أنا لا أقول: إنه رجل جيد – وأقتنع بكل كلمة ذكرتها في رسالتك – لكن هذا هو التعامل الإنساني والمهني الأفضل، ألا ننظر إلى الأمور بسوداوية مُطبقة، أن نبحث عن بعض الإيجابيات والأمور المشرقة الموجودة لدى الآخرين, حتى ولو اختلفنا معهم.

شيء آخر مهم جدًّا: اجعل علاقتك مع زملائك في العمل - غير المدير – اجعلها علاقة طيبة وممتدة، وهنا ستشعر بروح الجماعة، وروح الجماعة دائمًا تخفف من وطأة الألم الذي يكون منشؤوه تفاعل شخصي مع شخص آخر واحد مهما كان مركزه أو وضعه, فهذا - أخي الكريم – الذي أنصحك به.

أما موضوع ما نشاهده في الدول الغربية: فأعتقد أن لهم ما يميزهم, ولهم أيضًا ما يعيبهم، نأخذ منهم ما هو طيب، ونترك ما هو سيئ، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها، لكن يجب ألا ننبهر بهم للدرجة التي تُنسينا أن من بيننا أيضًا من هم جيدون وفاعلون, ويتقون الله تعالى في أنفسهم, وفي الآخرين.

انعزالك هذا لا يدل على أنك تعاني من مرض التوحد؛ لأن مرض التوحد يصيب الأطفال واليافعين، فأنت ربما تعاني من شيء من الاكتئاب النفسي، وأنا أنصحك بأن تتفاعل مع الناس، وأن تذهب وتؤدي الصلاة في جماعة، وأن تمارس الرياضة الجماعية، وأن تتذكر أنك مهني ولديك مقدرات، وأنت في قمة شبابك... فهذا كله يجب أن يُحسن من الدافعية لديك.

ممارسة الرياضة أيضًا تعتبر أمرًا مهمًّا، والزواج لابد أن يجد أسبقية في تفكيرك، وهذا مهم جدًّا، وإن شاء الله تعالى سوف تجد فيه الرحمة والسكينة والسعادة والتوفيق، ونسأل الله لك التوفيق والسداد، وأن يقدر لك الخير حيث كان.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • البحرين هبه

    ما شاء الله. أجمل رد واجمل تعليق. جدا ارتحت لهذا الكلام .

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً