الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أتخلص من الأثر النفسي الناتج عن الخصومات؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أرجو التكرم بتوضيح المعالجة النفسية والدينية التي يمكن بها التخلص من الأثر النفسي للخصومات العنيفة، وتقبل وجود هؤلاء المتخاصم معهم في حياتك، سواء كانوا جيراناً أو أقرباء أو من الساكنين في مكان إقامتك وغربتك.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سلام حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه.

بداية نشكر لك أختنا الفاضلة هذا السؤال، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يؤلف بين القلوب، وأن يغفر الذنوب، وأن يلهمنا جميعًا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.

أرجو أن تعلمي بداية أن المؤمنة التي تخالط الناس وتصبر على الأذى خير من المؤمنة التي لا تخالط ولا تصبر، وأن وجود الإنسان في جماعة له ثمن، ولابد من التضحيات، فلابد أن يكون في الناس من نتضايق من تصرفاتهم، ولكن هذا هو ثمن وجود الإنسان مع جماعة، والإنسان مدني بطبعه، فهو لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا يستغني عن خدمات الآخرين:

ومن هنا قال الشاعر:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ *** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

قال الله تعالى: {ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا}، فالإنسان يحتاج للآخرين، وهم يحتاجون إليه، بل إن هذا الإنسان لا يمكن أن يسعد أو يعرف طعم السعادة إلا إذا وجد مثل هذه المعاناة والصعوبات التي ربما تعطي الحياة طعمًا ولونًا ورائحة، إذا تعاملنا معهم في حدودها المعقول ولم تأخذ أكبر من حجمها وتتمدد في حياتنا، ومن النجاح أن تكون لحظات الأحزان واللحظات السالبة محدودة، ومن سعادة الإنسان ألا يقف أمام المواقف السالبة طويلاً، بل عليه أن يتعدّاها ويمضي، ودائمًا يُقدم العفو والصفح والمسامحة.

أريد أن أقول أيضًا: هذه المخاصمات التي تحدث أحيانًا وتكون عنيفة أحيانًا – كما هو الإشارة في الاستشارة – أحيانًا تعقبها فروقات في نفس العمق وبنفس الدرجة، لأن الإنسان من خلال الخصومة يكون قد تعرف على الخطوط الحمراء وتغلب على الأمور التي لا تُرضي هذا الشريك، بالتالي عندما يتفادى ما يُغضب الشريك فإنه بذلك يصل إلى ميادين النجاح ويصل إلى أحسن الطرق التي تعينه على الوصول إلى نفس ذلك الشريك.

كثير من الصدقات كانت نتائج خصومات تعرف كل طرف بعد ذلك على الطرف الآخر.
أما إذا كان هذا المخالف جاراً أو قريباً أو لا يستطيع الإنسان أن ينفك منه فهذا أولى بالرحمة وأولى بالعطف وأولى بالمسامحة، ودائمًا الإنسان ينبغي أن يتذكر أن ما بين الناس من عداوات ستزول، ولابد أن تزول، وإن لم تزل فينبغي أن تأخذ حجمها المناسب، وبعد ذلك تظل العلاقة في حدود، لو كانت بيني وبين الناس شعرة – كما قال معاوية رضيَ الله عنه – ما قطعتها، والإسلام يمنعنا من أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيُعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

الشريعة تعالج هذه المسألة بأن تجعل لمن يعفو ومن يصفح الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} والشريعة واضحة (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فكأن الشريعة ترغب فيما عند الله تبارك وتعالى، وقد قال سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.

وقدوتنا في ذلك هم الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه– فنبي الله يوسف عليه السلام بعد أن فعل به إخوانه ما فعلوا لما التقى بهم قال: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، بل أسوتنا وقدوتنا في ذلك النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – حين فتح مكة وجاء أهل مكة (قريش)، قال لهم وللقتلة الذين قتلوا عمه وأحبابه والذين حاربوه وحاربوا الدين: (ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال -صلى الله عليه وسلم- اذهبوا فأنتم الطلقاء) ثم ردد عبارة يوسف – عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه -: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) ومعنى (لا تثريب) أي لا لوم ولا عتاب، فهو لم يسامح فقط وإنما محا هذه الآثار من نفسه.

لقد ضرب لنا - عليه الصلاة والسلام – أروع الأمثلة في المسامحة والعفو عن أقربائه، بل قدم تنازلات كبيرة عندما منع بني هاشم أن يطالبوا بحقوقهم التي استولى عليها عقيل ابن أبي طالب – - رضي الله عنه وأرضاه - .

لاحظي التضحية هنا من أجل الصلح ومن أجل العفو ومن أجل المعالجة حتى بشيء من المال، وذلك صلة للرحم، وهذه الصدقات، وعلاقة الأخوة، لا تستمر إلا بنسيان المرارات وبالصبر على الجراحات.

هذه الدائرة العظيمة – دائرة الأخوة، دائرة الرحم، دائرة القرابة – الشريعة تريد أن تكون هذه الدائرة وفاقًا وحبًّا وتسامحًا وعفوًا، والشيطان هو الذي يريد لهذه الدائرة أن تكون فيها مخاصمات وأن تكون فيها عداء، (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء).

لا شك أن الإنسان الذي يعامل الناس بصدر سليم، ويعفو عمَّن ظلمه ويتجاوز عن المخطئ في حقه، يعيش من الناحية الصحية ومن الناحية النفسية في أمنٍ وعافية، فإن الرجل قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: (لأتفرغنَّ لك)، قال: (إذن جئت لنفسك بشغل) ستشغل نفسك، وتشغل قلبك وتصاب بالأمراض، لذلك هذه الأمراض الخطيرة كلها نتيجة للهموم والغموم، وهذه التوترات والغضب وغيرها.

الإنسان ينبغي أن يُدرك أن الدنيا لا تستحق هذا الغضب، ولا تستحق هذا التناحر والتخاصم، وأنها ساعة فينبغي أن نقضيها في طاعة وفي وفاق، (والإنسان لا يجازي من أساء إليه بمثل أن يُحسن إليه)، ولذلك كان سلف الأمة – عليهم من الله الرضوان – على كمال في العقل والفضل، بل ربما كان الواحد منهم إذا أساء وأخطأ عليه الإنسان بادر هو بالعفو، لأنه يريد أن يكون (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).

علينا إذن أن نتحمل من حولنا، وأن نوقن أن هذه الحياة من طبيعتها الأكدار، ومن طبيعتها مثل هذه المشاكل، لكن المهم هو التعامل معها وإعطاء هذه المشاكل حجمها، وتذكر أن الأصل هو التآلف والتراحم، وأن الأصل هو أن نتوحد، وأن نحب بعضنا بعضًا في الله تبارك وتعالى، خاصة الذين حولنا، الذين لهم صلة رحم بيننا وبينهم أو من جوار أو نحو ذلك، فإن الله تعالى يقول: {واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القُربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورًا}، ويقول: {وقولوا للناس حُسنًا} فالشريعة تأمرنا بمزيد من الإحسان والشفقة والتسامح مع الآخرين.

نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً